فصل: فَصْلٌ: الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ إِفَادَةَ الْمُخَاطَبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ‏: التَّعْلِيلُ:

وَفَائِدَتُهُ التَّقْرِيرُ وَالْأَبْلَغِيَّةُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ أَبْعَثُ عَلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ مِنْ غَيْرِهَا، وَغَالِبُ التَّعْلِيلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، وَحُرُوفُهُ: اللَّامُ، وَإِنَّ، وَأَنْ، وَإِذْ، وَالْبَاءُ، وَكَيْ، وَمِنْ، وَلَعَلَّ، وَقَدْ مَضَتْ أَمْثِلَتُهَا فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ.
وَمِمَّا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ لَفْظُ (الْحِكْمَةِ) كَقَوْلِه: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [الْقَمَر: 5]، وَذِكْرُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، نَحْوُ قَوْلِه: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النَّبَإ: 6، 7].

.النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْحُذَّاقَ مِنَ النُّحَاةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَهْلِ الْبَيَانِ قَاطِبَةً عَلَى انْحِصَارِ الْكَلَامِ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ.
وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ أَقْسَامَ الْكَلَامِ عَشَرَةٌ: نِدَاءٌ، وَمَسْأَلَةٌ، وَأَمْرٌ، وَتَشَفُّعٌ، وَتَعَجُّبٌ، وَقَسَمٌ، وَشَرْطٌ، وَوَضْعٌ، وَشَكٌّ، وَاسْتِفْهَامٌ.
وَقِيلَ: تِسْعَةٌ بِإِسْقَاطِ الِاسْتِفْهَامِ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، بِإِسْقَاطِ التَّشَفُّعِ لِدُخُولِهِ فِيهَا.
وَقِيلَ: سَبْعَةٌ بِإِسْقَاطِ الشَّكِّ لِأَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْخَبَرِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ سِتَّةٌ: خَبَرٌ، وَاسْتِخْبَارٌ، وَأَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَنِدَاءٌ، وَتَمَنٍّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَمْسَةٌ: خَبَرٌ، وَأَمْرٌ، وَتَصْرِيحٌ، وَطَلَبٌ، وَنِدَاءٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: أَرْبَعَةٌ: خَبَرٌ، وَاسْتِخْبَارٌ، وَطَلَبٌ، وَنِدَاءٌ.
وَقَالَ كَثِيرُونَ: ثَلَاثَةٌ: خَبَرٌ، وَطَلَبٌ، وَإِنْشَاءٌ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ أَوْ لَا: الْأَوَّلُ الْخَبَرُ، وَالثَّانِي: إِنِ اقْتَرَنَ مَعْنَاهُ بِلَفْظِهِ فَهُوَ الْإِنْشَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بَلْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ الطَّلَبُ.
وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُولِ الطَّلَبِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى (اضْرِبْ) مَثَلًا- وَهُوَ طَلَبُ الضَّرْبِ- مُقْتَرِنٌ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الطَّلَبِ لَا نَفْسُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْخَبَرِ فَقِيلَ: لَا يُحَدُّ لِعُسْرِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ضَرُورَةً، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ.
وَالْأَكْثَرُ عَلَى حَدِّهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْخَبَرُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ. فَأَوْرِدْ عَلَيْهِ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا صَادِقًا، فَأَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَصِحُّ دُخُولُهُ لُغَةً.
وَقِيلَ: الَّذِي يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، هُوَ سَالِمٌ مِنَ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ فَأُورِدَ عَلَيْهِ، نَحْوُ: (قُمْ) فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ، وَالطَّلَبَ مَنْسُوبٌ.
وَقِيلَ: الْكَلَامُ الْمُفِيدُ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا.
وَقِيلَ: الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي بِصَرِيحِهِ نِسْبَةَ مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِنْشَاءُ مَا يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ بِالْكَلَامِ، وَالْخَبَرُ خِلَافُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَعَلَ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةً:
الْكَلَامُ إِنْ أَفَادَ بِالْوَضْعِ طَلَبًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَلَبِ ذِكْرِ الْمَاهِيَّةَ أَوْ تَحْصِيلِهَا أَوِ الْكَفِّ عَنْهَا، وَالْأَوَّلُ الِاسْتِفْهَامُ، وَالثَّانِي الْأَمْرُ، وَالثَّالِثُ النَّهْيُ، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ طَلَبًا بِالْوَضْعِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ سُمِّيَ تَنْبِيهًا وَإِنْشَاءً؛ لِأَنَّكَ نَبَّهْتَ بِهِ عَنْ مَقْصُودِكَ وَأَنْشَأْتَهُ؛ أَي: ابِتَكَرْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، سَوَاءٌ أَفَادَ طَلَبًا بِاللَّازِمِ كَالتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالنِّدَاءِ وَالْقَسَمِ أَمْ لَا: كَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنِ احْتَمَلَهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فَهُوَ خَبَرٌ.

.فَصْلٌ: الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ إِفَادَةَ الْمُخَاطَبِ:

الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْر: نَحْو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [الْبَقَرَة: 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، وَبِمَعْنَى النَّهْي: نَحْو: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]، وَبِمَعْنَى الدُّعَاء: نَحْو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 50]؛ أَيْ: أَعِنَّا. وَمِنْهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [الْمَسَد: 1]، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [الْمَائِدَة: 24].
وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْمٌ: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النِّسَاء: 90]، قَالُوا: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ صُدُورِهِمْ عَنْ قِتَالِ أَحَدٍ.
وَنَازَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ.
قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ} [الْبَقَرَة: 197]، لَيْسَ نَفْيًا لِوُجُودِ الرَّفَثِ، بَلْ نَفْيٌ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ، فَإِنَّ الرَّفَثَ يُوجَدُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَأَخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إِلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إِلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، وَمَعْنَاهُ مَشْرُوعًا لَا مَحْسُوسًا، فَإِنَّا نَجِدُ مُطَلَّقَاتٍ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا إِلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ. وَكَذَا: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]؛ أَيْ: لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الدَّفِينَةُ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجِدَ، فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَيَتَبَايَنَانِ وَضْعًا. انْتَهَى.

.فَرْعٌ: في التَّعَجُّبِ:

مِنْ أَقْسَامِهِ عَلَى الْأَصَحِّ التَّعَجُّبُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهُوَ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى أَضِرَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّائِغ: اسْتِعْظَامُ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَنْ نَظَائِرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ.
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْمَطْلُوبُ فِي التَّعَجُّبِ الْإِبْهَامُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِمَّا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، فَكُلَّمَا اسْتَبْهَمَ السَّبَبُ كَانَ التَّعَجُّبُ أَحْسَنَ.
قَالَ: وَأَصْلُ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَبَبُهُ، وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تُسَمَّى تَعَجُّبًا مَجَازًا.
قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ الْإِبْهَامِ لَمْ تَعْمَلْ نَعَمْ إِلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ لِيَقَعَ التَّفْسِيرُ عَلَى نَحْوِ التَّفْخِيمِ بِالْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ. ثُمَّ قَدْ وَضَعُوا لِلتَّعَجُّبِ صِيَغًا مَنْ لَفْظِهِ، وَهِيَ: (مَا أَفْعَلَ)، وَ(أَفْعِلْ بِهِ)، وَصِيَغًا مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، نَحْوَ: (كَبُرَ) كَقَوْلِه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الْكَهْف: 5]، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [الصَّفّ: 3]، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [الْبَقَرَة: 28].

.قَاعِدَةٌ: إِذَا وَرَدَ التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ:

قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِذَا وَرَدَ التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [الْبَقَرَة: 175]؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ؛ وَإِنَّمَا لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِالتَّعَجُّبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْظَامٌ يَصْحَبُهُ الْجَهْلُ، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تُعَبِّرُ جَمَاعَةٌ بِالتَّعَجُّبِ بَدَلَهُ؛ أَيْ أَنَّهُ تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُخَاطِبِينَ.
وَنَظِيرُ هَذَا مَجِيءُ الدُّعَاءِ وَالتَّرَجِّي مِنْهُ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: عِنْدَكُمْ هَذَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِه: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طَه: 44]، الْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، وَفِي قَوْلِه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 1]، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 10]، لَا تَقُلْ هَذَا دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِذَلِكَ قَبِيحٌ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِهِمْ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَعَلَى مَا يَعْنُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ الْقَوْلُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يُقَالُ لِصَاحِبِ الشُّرُورِ وَالْهَلَكَةِ، فَقِيلَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْهَلَكَةِ.

.فَرْعٌ: مِنْ أَقْسَامِ الْخَبَرِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ:

نَحْو: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فُصِّلَتْ: 53]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ} [الشُّعَرَاء: 277]، وَفِي كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ مَا يُوهِمُ أَنَّهُ إِنْشَاءٌ.

.فَرْعٌ: مِنْ أَقْسَامِ الْخَبَر النَّفْيُ:

بَلْ هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ أَنَّ النَّافِيَ إِنْ كَانَ صَادِقًا سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا، وَلَا يُسَمَّى جَحْدًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا سُمِّي جَحْدًا وَنَفْيًا أَيْضًا، فَكَلُّ جَحْدٍ نَفْيٌ، وَلَيْسَ كُلُّ نَفْيٍ جَحْدًا. ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَابْنُ الشَّجَرِيِّ وَغَيْرُهُما.
مِثَالُ النَّفْي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الْأَحْزَاب: 40].
وَمِثَالُ الْجَحْدِ نَفْيُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ آيَاتِ مُوسَى. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النَّمْل: 13، 14].
وَأَدَوَاتُ النَّفْي: لَا، وَلَاتَ، وَلَيْسَ، وَمَا، وَإِنْ، وَلَمْ، وَلَمَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَانِيهَا وَمَا افْتَرَقَتْ فِيهِ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ.
وَنُورِدُ هُنَا فَائِدَةً زَائِدَةً، قَالَ الْخُوَيِّيُّ: أَصْلُ أَدَوَاتِ النَّفْيِ (لَا) وَ(مَا)؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي، وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا، وَ(لَا) أَخَفَّ مِنْ (مَا)، فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ.
ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا، أَوْ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: مَا، وَلَمْ، وَلَنْ، وَلَا. وَأَمَّا إِنْ وَلَمَّا فَلَيْسَا بِأَصْلَيْنِ، فَمَا وَلَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ، وَلَمْ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَا وَمَا؛ لِأَنَّ لَمْ نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا وَالْمُضِيِّ مَعْنًى، فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ (لَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمِيمِ مِنْ (مَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي (لَمْ) إِشَارَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ (لَا) هِيَ أَصْلُ النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو.
وَأَمَّا (لَمَّا) فَتَرْكِيبٌ بَعْدَ تَرْكِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: (لَمْ) وَ(مَا) لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي، وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا، وَلِهَذَا تُفِيدُ (لَمَّا) الِاسْتَمْرَارَ.
تَنْبِيهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ صِحَّةُ اتِّصَالِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَام: 132]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64]، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]، وَنَظَائِرُهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ.
الثَّانِي: نَفْيُ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَة: قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلصِّفَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلذَّاتِ أَيْضًا.
مِنَ الْأَوَّل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الْأَنْبِيَاء: 8]؛ أَيْ: بَلْ هُمْ جَسَدٌ يَأْكُلُونَهُ.
وَمِنَ الثَّانِي: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [الْبَقَرَة: 273]؛ أَيْ: لَا سُؤَالَ لَهُمْ أَصْلًا، فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ إِلْحَافٌ. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غَافِرٍ: 18]؛ أَيْ: لَا شَفِيعَ لَهُمْ أَصْلًا. {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [الْمُدَّثِّر: 48]؛ أَيْ: لَا شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهُمْ، بِدَلِيل: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشُّعَرَاء: 100].
وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ نَفْيَ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ.
وَعِبَارَةُ ابْنِ رَشِيقٍ فِي تَفْسِيرِه: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ إِيجَابُ الشَّيْءِ وَبَاطِنُهُ نَفْيُهُ، بِأَنْ يَنْفِيَ مَا هُوَ مِنْ سَبَبِهِ كَوَصْفِهِ، وَهُوَ الْمَنْفِيُّ فِي الْبَاطِنِ.
وَعِبَارَةُ غَيْرِه: أَنْ يُنْفَى الشَّيْءُ مُقَيَّدًا، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا مُبَالَغَةً فِي النَّفْيِ وَتَأْكِيدًا لَهُ.
وَمِنْهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]، فَإِنَّ الْإِلَهَ مَعَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْبَقَرَة: 61]، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ. {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرَّعْد: 2]، فَإِنَّهَا لَا عَمَدَ لَهَا أَصْلًا.
الثَّالِثُ: قَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ رَأْسًا لِعَدَمِ كَمَالِ وَصْفِهِ أَوِ انْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، كَقَوْلِهِ فِي صِفَةِ أَهْلِ النَّار: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الْأَعْلَى: 13]، فَنَفَى عَنْهُ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتٍ صَرِيحٍ، وَنَفَى عَنْهُ الْحَيَاةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ وَلَا نَافِعَةٍ.
{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الْأَعْرَاف: 198]، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَة: 23]، لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْصَارَ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِإِقْبَالِهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ تُبْصِرُ شَيْئًا.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 102]، فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ الْقَسَمِي، ثُمَّ نَفَاهُ آخِرًا عَنْهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ. قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ.
الرَّابِعُ: قَالُوا: الْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَأُشْكِلَ عَلَى ذَلِكَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الْأَنْفَال: 17]، فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهِ الْحَقِيقَةُ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ هُنَا الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الْكَفَّارِ، فَالْوَارِدُ عَلَيْهِ النَّفْيُ هُنَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا، أَوْ مَا رَمَيْتَ انْتِهَاءً إِذْ رَمَيْتَ ابْتِدَاءً.
الْخَامِسُ: نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ.
مِنَ الْأَوَّل: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50]، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الْأَنْبِيَاء: 40]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الْكَهْف: 97].
وَمِنَ الثَّانِي: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [الْمَائِدَة: 112]، عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: هَلْ يَفْعَلُ أَوْ هَلْ تُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تَسْأَلَ؟ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَأَنَّ عِيسَى قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ.
وَمِنَ الثَّالِث: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الْكَهْف: 67].

.قَاعِدَةٌ: نَفْيُ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ:

وَثُبُوتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَثُبُوتُ الْخَاصِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَامِّ، وَنَفْيُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ تُوجِبُ الِالْتِذَاذَ بِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ نَفْيُ الْعَامِّ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ، وَإِثْبَاتُ الْخَاصِّ أَحْسَنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْعَامِّ.
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِه: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [الْبَقَرَة: 17]، لَمْ يَقُلْ بِضَوْئِهِمْ بَعْدَ قَوْلِه: {أَضَاءَتْ}؛ لِأَنَّ النُّورَ أَعَمُّ مِنَ الضَّوْءِ؛ إِذْ يُقَالُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الضَّوْءُ عَلَى النُّورِ الْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يُونُسَ: 5]، فَفِي الضَّوْءِ دَلَالَةٌ عَلَى النُّورِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ، فَعَدَمُهُ يُوجِبُ عَدَمَ الضَّوْءِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَالْقَصْدُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا؛ وَلِذَا قَالَ عَقِبَهُ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وَمِنْهُ: {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} [الْأَعْرَاف: 61]، وَلَمْ يَقُلْ ضَلَالٌ، كَمَا قَالُوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ} [الْأَعْرَاف: 60]؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهُ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي نَفْيِ الضَّلَالِ، وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ نَفْيَ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْجِنْسِ الْبَتَّةَ، وَبِأَنَّ نَفْيَ الْأَدْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَعْلَى.
وَالثَّانِي كَقَوْلِه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]، وَلَمْ يَقُلْ: (طُولُهَا)؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ أَخَصُّ؛ إِذْ كَلُّ مَا لَهُ عَرْضٌ فَلَهُ طُولٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ. وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَى هَذَا آيَتَان: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46]، وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 46].
وَأُجِيبُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ (ظَلَامًا) وَإِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَبِيدِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَيُرَشِّحُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَة: 109]، فَقَابَلَ صِيغَةَ (فَعَّالٍ) بِالْجَمْعِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الزُّمَر: 46]، فَقَابَلَ صِيغَةَ (فَاعِلٍ) الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ لِيَنْتَفِيَ الْقَلِيلُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ نَفْعِهِ فَلِأَنْ يَتْرُكَ الْقَلِيلَ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النِّسْبَةِ؛ أَيْ: بِذِي ظُلْمٍ، حَكَاهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى (فَاعِلٍ) لَا كَثْرَةَ فِيهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ تَعَالَى لَكَانَ كَثِيرًا، كَمَا يُقَالُ: زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ، تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَيَسَ بِظَلَّامٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ وَرَدَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: (ظَلَّامٌ)، وَالتَّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ.
الثَّامِنُ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَجَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ، ثُمَّ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ.
وَيُجَابُ عَنِ الثَّانِيَةِ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ. وَبِعَاشِرٍ: وَهُوَ مُنَاسِبَةُ رُءُوسِ الْآيِ.